أحدث أخبار الفن والرياضة والثقافة والمرأة والمجتمع والمشاهير في كل المجالات

الجزء الأول من (المقامة النقدية)

الشاعر/محمد خير

حَدَّثَنا ابنُ خَير، وكأنَّ على رؤوسِنا الطَّير، فقعدَ الواقفُ، وأَمْسَكَ السائرُ عن السَّيْر، فقال:
إنَّ النَّقْدَ صناعةٌ شامخة، لا يدنو منها إلا أقلامٌ راسخة، وقد أَوْرَقَ من جِذْعِ الاستحسانِ لِمَا جَرَىٰ على اللسانِ مِن البديعِ والبيانِ، والسليقةُ فيه تقترنُ بالاستهجانِ مِن قولٍ منقوعٍ بالنكران لما يستدعي زفرةَ الغَثَيانِ، وهو فِطرةُ النَّفْسِ السليمة، واتكاءُ الذائقةِ القويمة، فلا يَقربنَّهُ إلا أفئدةٌ كريمة.
والنقدُ من معانيهِ نقدُ الدراهم، ففيهِ اصطفاءُ جَيِّدِها، وإخراجُ الغائم، فليستْ كل الدراهم سواء، وليس كل القول في ميزان النقد يعلو السماء.
والناقدُ صَيْرَفِيٌّ مُتَّقِدُ الذهنِ، لا يعرفُ سبيلًا إلى الوهنِ، وهو مفطورٌ على استخراج الْجُمانِ ولو كان وسطَ الحصى، ومجبولٌ على إرجاعِ مَن غوى في ضلالِهِ وعصى.
فقلنا: وإنا على قولك لَشُهودٌ، فما لنا وبعضُ النُّقَّادِ اليومَ قرودٌ؟
فضحك ابنُ خير حتى بدت نَوَاجِذُهُ ناصعة، وضحكنا حتى صارت أَعْيُنُنا دامعة، فأخذَ رشفةً من قهوته، وأكمل ما كان من مقالته، فقال:
إنَّ مِن المتصدرين للنقدِ اليومَ ثُلَّةً بُلَهاء، تحسبهم شموسًا وهُم ليالٍ ظلماء، عقولهم معتمةٌ كأنها جُبٌّ سحيق، أُشْرِبُوا ضلالًا بعد ضلالٍ صَفيق، إذا تحدثَ أحدُهُم أغلقتَ أُذُنَيْكَ مُستعيذًا بالله من النهيق، يتخبطون هائمينَ، وكيف لِمِثْلِهِم أن يُفيق؟! لقد استوجبوا لأنفسهم أن يُصْلوا في حريق.
فقال أحدُنا متسائلًا: أَبِنْ يا ابنَ خير ما كان علينا متداخلًا.
فقال ابن خير مُلَبِّيًا سائلَه: إليك ما سألتَ، فكُن عني ناقِلَهُ.
إن هناك مُدَّعِيًا تشمئزُّ منه النفوسُ، لا تُحَرِّكُهُ إلا الفلوسُ، فإذا لم يظفر بها اعتلاهُ العبوسُ، وراحَ يطيحُ بِذَيْلِهِ كأنه الجاموسُ، يترقبُ الموائدَ ارتقابًا، وبدون ما لذ وطاب يشكو اغترابًا، ويصيرُ ما بنى من أَقْصُرِ الأحلامِ يَبابًا، وما مَنَّى به نَفْسًا غَوِيَّةً سرابًا، فلا يعي للقولِ رحابًا، ويهيلُ عليه تَرابًا.
لا يحفظ ماء وجهه حياءً، ولا يُبقِي وُدًّا ولا صفاءً، فيُحيلُ النهرَ الدفاقَ غُثاءً، ويبدلُ المدحَ هجاءً.
فقال أحد الجالسين النابهين: أفلا بارتجالِك يا ابن خير نستعين؟ فَأَنْشَدَ مُرتجلًا:
عَلَىٰ كُلِّ المـــوائدِ ذو حضـــــورِ
ولو بِفُتــــاتِها بيــن الحضــــــورِ
فـلا يـرعـى لِمـــاءِالوجــهِ حقًّـــا
كَفَــأْرٍ راغَ مِن وسـط الجحــــورِ
يُمَنِّــي نفسـَـهُ بالظفـْــرِ يَــومًـــا
لِتَبْسـمَ بعضُ حُجـْـراتِ القصــورِ
رَبِيـبُ الـذُّلِّ مفضــوحُ الخَفـــايا
كَسُــوسٍ عاثَ شَـرًّا في التُّمُـــورِ
وفي رمضـــانَ يأكلُ لحــمَ قـومٍ
نهــارًا ثمَّ ينهــشُ في السحــــورِ
غــريبٌ إنْ أقـــامَ بِهِــم زمـــــانًا
أيضحَىٰ الفأرُ من جنسِ الصقورِ؟
مُحـــالٌ إنمــا الفـــــئرانُ شَـــــرٌّ
أهيلوا ما أَعَــــدُّوا مِن جُسُـــــورِ
فَتَمايَلَ الحضورُ طَرَبًا، وقالوا إنا سمعنا عَجَبًا.
وبينما الجالسونَ متلهفون فإذا بِأَحَدِ الذين أَلْهَبَهُمْ قولُ ابنِ خير يَفرُّ فرارَ الفأرِ خشيةَ الصقرِ، فَرَمَقْناهُ عامِدِين، والْتَفَتْنَا مُنْصِتِين، وكأنَّ الحديثَ قطراتُ الندى فوق الجَبِينِ، فاستأنفَ ابنُ خَير فُيُوضَ حَدِيثِهِ الرَّصِينِ، فقال:
إنَّ النَّقْدَ لَيْسَ افْتِراءً، وَلَمْ يَكُنْ يَوْمًا مِرَاءً، فَمَن افْتَرَىٰ فِيهِ لَمْ يَجْنِ غَيْرَ التِّيهِ، وَمَن كانَ مُرَائيًا كانَ عن القَصْدِ نَائِيًا، وإني رأيتُ مُتَحَذْلِقًا يَتَصَدَّرُ النَّقْدَ مُفْتَرِيًا، فلم يَبْرَحْ إلا أنْ كان قزمًا مُشْتَهِيًا، يقول بما لا يعي، ويخال قَوْلَةَ سُوئِهِ مما جادَ به الوحيُ الألمعي، ألَا لعنةُ النقدِ عليه وبصْقةٌ من (بُلْبُلِ الأصمعي )، يسعى إلى ما لا طاقةَ له بِأَسْرَارِه، ويُخرِجُ رِيحًا عَفِنَةً بينَ أنصارِه، هم وهو سواء، هواءٌ بَالَ فيه هواء، لم يجد في الروض عَيْبًا فقال إني أضاجعُ غَيْبًا، وما تَبَوَّلَ إلا رَيْبًا، وبكل ناقصةٍ جاءها اقترفَ ذنباً، يُحَدِّثُ نَفسهَ قائلًا: أعلمُ أن النقصَ من شيمي، وهذا يؤرقني في يَقظتي وحلمي، ولكن التشدقَ من قِيَمي.
ومثل هذا يا رفاق مَغبون، ذاتَ يومٍ سَيَتَلَقَّفُهُ جُنون، فَأَهِيلُوا عليه ما يستخِقُّ مِن التُّراب، واقْبُرُوا ذِكْرَهُ بين الصحاب.
ثم أنشدَ ابن خير ارتجالًا قاذفًا، فجاءَ كما أَسْمَعَنا عاصِفًا.
قال:
قد جاءَ بالسُّوءِ لَمْ يَفْطِنْ لِسَوْءَتِهِ
والْجَهْــلُ داءٌ أَعْيـَا كُلَّ صُحْبَتِـهِ
القائلـُــونَ بمـا لَمْ يَبْلُغُــوا طَلَبــًا
مثلُ الحِمــارِ نَهِيــقٌ مِــلْءُ جُعبَتِــهِ
يسعــى الْجَهُــولُ إلى نَهْــرٍ يُدَنِّسُهُ
فيصطــلي عطــشًا بِثُقْــبِ قِربَتــِهِ
المزيد من المشاركات

الشاعرة انتصار محمد حسين تكتب .. “تركني” 

يُناطِحُ السُّحْــبَ يرجو أن يُدَنِّسَـها
زَيْفـًــــا فَتَرْمُقُـــهُ بِلَيْـلِ غُـــرْبَتِـهِ
فهل يَعي الدَّرْسَ كي يَعُودَ مُعْتَذِرًا
أم يَقْتَفِــي الْكِــبْرَ لا يَـرْنُـو لِتَــوْبَتِهِ
فالنقدُ مَدْرَسَةٌ رُوَّادُها كنجومٍ (م)
كيفَ يَبْلُغُهــــا قــزمٌ بِحَرْبَتِـــه
حتمًـــا يَعُـــودُ بِخُسْـرانٍ كَـشِيمَتِـهِ
عَـــوْدَ الللــئيمِ على أشــلاءِ لُعْبَتــهِ
فلما انتهى محدثنا ابن خير من ارتجاله، كنا كالطيرِ يُحَلِّقُ في مجاله، فَتَرَنَّمَ الحضورُ تَرَنُّمَ السكارَىٰ، وَبَدَتْ أَعْيُنُ ثُلَّةٍ مُتَأَفِّفَةٍ حَيارَىٰ، فانتفضوا انتفاضَ العصفورِ الغريق، وهرولوا يتحسسون قارعةَ الطريق.
وبينما نحن ننظر في دهشةٍ واستغراب، فإذا بغلامٍ يشق طريقه بين الصحاب، وجهه كالقمر لا يمسه سحاب، في يديه فنجانُ شايٍ يزهو بخارُه، وقد نادت العازفَ أوتارُه، فأنشدَنا من شعرِ ابن خير سحرًا، فوددنا أن لو كان دهرًا.
انتهى ابن خير من شايِهِ،وأَسْلَمَ العازفُ إلى غفوةٍ هديلَ نايِه، ثم استأنف محدثنا الحديث قائلا، سأُجِيبُكُ يا مَن جئتَني وقت العزف سائلا.
إن النقدَ بحرٌ عميق، إن لم تُعِد له العُدة فإنك لَغريق، ولن ينجدك من مصيرك رفيق ولا صديق، فأحلام الناس بالسراب تضيق.
إنَّ شَرَّ النقادِ ناقدٌ لا يهرعُ إلا لمَنَصَّاتٍ تكتظُّ بِمُؤَخِّراتِ النساء،
يتسللُ تَسَلُّلَ الذئبِ في ليلةٍ عمياء، يختلسُ النظراتِ مرتقبًا، ويتَحسسُ مواطئَ اللينِ مُقتربًا، فيأتي جُنُبًا، ويمضي جُنُبًا، إذا نالَ نظرةَ غانيةٍ قالَ ما سمعتُ إلا عَجَبًا، وما رأيتُ إلا ذهبًا، وإذا لم يظفر بما سعى هلهلَ الدُّرَّ حَطَبًا، لا يحركُهُ إلا نصْفُهُ الأسفلُ، وليس دُونَهُ بين الحضور أسفلُ، يتملقُ كل أنثى لم تُثْبِتْ أنوثتَها إلا بطاقةُ الرقم القوميِّ، وعَمَّنْ تحفظُ وقارَها فهو كالعَمِيِّ، يُهَرْتِلُ بكلامٍ لُجِيٍّ، وينتصبُ بظَهرٍ مَحْنِيٍّ، لا ينثني عن أنثى ما دام فيها روحٌ، فتطولُ في غثائها شروحٌ، وتحلو من أجل دلالِها قروحٌ، وله عن الجمال في الإبداعِ نزوحٌ.
وهنا يرتسم الضِّيقُ في الأفق ارتسامَ الدمِ في جبينِ الشفقِ، فيُنشِدُ ابنُ خيرٍ مرتجلًا قذائفَه:
رأيتُ النقدَ قد أَمْسَىٰ صـريعا
إذا ما أَكْرَمَ القومُ الوضيعا
وحَقُّ النقـدِ يا أصحابُ ذَوْقٌ
يَعــافُ الغَثَّ يختـارُ البـديعا
فمَن يسعــى لغــــانيةٍ بنقــدٍ
فقد أمسى بِرِفقَتِها وَضِيعـا
إلى أنثى يُحِيلُ المِلْحَ شَهْـدًا
ويُلْبِسُ جَهْلَهــا ثَوْبًــا بَديعــا
ينامُ على بُطُونِ الخُبْثِ دهرًا
وظَهْرُ الصدقِ لم يبرح مَنِيعا
يُـــروادُ عَلَّــهُ يَلْقَــىٰ قبـــولًا
وَعَلَّ حشائشًا تلقَـىٰ ربيعـــا
فإنْ ما جاءَكُمْ فَاصْلُوه نارًا
وَزِيـدُوا جَــوْفَهُ سّمًّـا نَقِيعا
فقلنا: لله در اتجالك يا حبيب، دمت شمسًا سناها لا يغيب.
وبينما نحن ننظر إليه فإذا……..
قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.