أحدث أخبار الفن والرياضة والثقافة والمرأة والمجتمع والمشاهير في كل المجالات

عصام كنج الحلبي يكتب “أنا جائع منذ ربع قرن”

أنا جائع منذ ربع قرن

لا يوجد في ذاكرتي أي مشهد لأمي وهي تحضر لي طعاما، أو تطبخه، أو تتسوق له، أو حتى تلقي ببقاياه للدجاج.

منذ ربع قرن وأنا أتشهى كل ما تصنعه أمهات أصدقائي وصديقاتي، ولا أشبع.

منذ ربع قرن وأنا ألتهم كل شيء، وأستلذ بكل شيء، وأحصل على كل شيء، ولا أكتفي.

الأمهات..
ماذا تعرفون عن الأمهات

لو أخبرتك أنني كنت أما حقيقية لإخوتي..
لو أخبرتك أنني كنت أعد لهم طعاما، وأبدل لهم (حفوضاتهم)، وأغسل لهم مؤخراتهم، وألبسهم ثيابا نظيفة..
لو أخبرتك أنني ألقمت أخي الصغير حلمتي اليسرى عندما عجزت أمام بكائه المتواصل..
لو أخبرتك أنه تلقفها بنهم وهدأ حينها ونام بعمق..
كنت ستضحكين علي، وكنت سأتفهم ذلك.

منذ ربع قرن وأنا أتعارك مع الأثداء وأنتهي بالهزائم، لكن الأمر اختلط علي بعد سن البلوغ، وفيما بعد صارت كل انتصاراتي وبالا لا تحتمله روحي ولا تطيق نشوة سحره الهائل.

صديقي الذي يشبه ملحم بركات يدعوني دائما إلى كأس، ويقول لي: (تعا ننسى)
وأنا ألبي دعوته دائما، وأتذكر كل شيء..

أتذكر أمي حين ماتت، وأتذكر كيف وقعت عن السلم الخشبي، وأتذكر كيف كانت تتحدث مع جارتنا البدوية، وأتذكر كيف كانت تؤنبني بسبب تهوري في عبور الشارع، لكنني لا أتذكر أي شيء عن الطعام.

أنا جائع منذ ربع قرن، وعاجز عن البكاء.
فاشل في الحب أيضا
كل أنثى أحببتها اكتشفت أخيرا أنني لا أجيد إلا أن أكون طفلها المدلل، ولا تجيد إلا أن ترحل وتتركني لذاكرتي الخالية من الملح الأول، والخبز الأول، والحليب الأول.

لم أتعلم كيف أكون أبا، وولدي لا يعجبه حناني الهائل وعطفي الهائل وغضبي الهائل.

أنا أستحق لقب (أسوأ أب في العالم)، لكن أرجوكم.. لا تجحدوا أمومتي.

الغضب الهائل جعلني اليوم أكسر لعبة ولدي وأنثر أشلاءها في البيت، ولدي لم يبك، ولم يتذمر، ولم يحزن، فقط قال:
‏(في أب بالدنيا بيكسر لعبة ابنو بيوم العيد؟)

أسندت ظهري إلى الجدار، ودخلت مع نفسي في نوبة تحليل سخيفة، كالتي يتبجح بها علماء النفس:
ربما كان (لا وعيي) ينتقم من كل الألعاب التي لم أكسرها في طفولتي، كل الألعاب التي لم أحصل عليها يوما.

حبست نفسي داخل التواليت (العربي) وجلست في زاويته على الأرض.. وبكيت..

أخيرا بكيت..
لكن رائحة الدموع اختلطت علي.

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.