الإغتراب: هجرة للثروة أم للمهانة والعذاب؟ بقلم/د.عبد الولي الشميري

الإغتراب: هجرة للثروة أم للمهانة والعذاب؟

بقلم/د.عبد الولي الشميري

واذكرونا مثل ذكرانا لكــــــــــم رب ذكرى قربت من نزحــــــــا
واذكروا صبا إذا غنى بكم شرب الدمع وعاف القدحا
هذه النجوى لسان حال المهاجر المفارق أهله ووطنه، حين الرحيل لغرض الإغتراب، وهي التعبير المحسوس لقلبي حبيبين يفترقان، وحين يتعانقان للوداع، زوجة شابة حسناء، أو حبيبة مخطوبة، أو أم حنونة مسنة، أو والد طاعن في السن مريض، أو حين يودع فلذات كبده الصغار، لحظة وداع باكية، تختلط فيها أنفاس النشيج مع حرارة الدمع الغزير. ولسان حال الأهل والأحباب يردد:
يا من يعز علينا أن نفارقه وجداننا كل شيئ بعدكم عدم
كم هي كثيرة وكبيرة آمال المغتربين قبل الرحيل إلى المهجر؛ إنها وردية اللون، جاذبة في الخيال، وكم هي مرارة الواقع لكثرة الأحزان، بين طموح متدفق بالآمال، وواقع مؤلم شديد الفضائع والنكبات، وهيهات بين الطموح والواقع، لقد كانت أحلام الهجرة تخالج نفوس الشباب، ومتوسطي الأعمار، منذ القرن التاسع عشر الميلادي والثاني عشر الهجري، للإلتحاق بالسفن البحرية التجارية العملاقة، والأساطيل الحربية للدول الأوربية التي استيقظت مبكرا، ونهضت نحو الثورة الصناعية، فكانت أشهر الموانئ ميناء عدن الفاتنة، وأشهر المعابر قناة السويس التي ألفتت أنظار العالم إلى أهمية المنطقة العربية واستراتيجيتها، فالتحق ملايين الشباب بالرحيل إلى الهجرة، وانطلقوا من قراهم النائية مفارقين أوطانهم الّتي كانت – يومذاك – ترزح تحت الاحتلال، أو تحت حكام محليين غارقين في العتاقة والتخلف والفقر، وكانت الدول المستقدمة للعمالة العربية قد امتلكت أنظمة وقوانين لم يألفها المغتربون في أوطانهم، رفيقة بالبشر معترفة بحقوق الإنسان، تضمن للعامل القدر الضروري من حريته الدينية والفكرية والمعيشية، وتضمن حقوق التقاعد، والتعويض عن المخاطر، وحق تحويلات مكتسباته إلى وطنه، لقد رحل آباؤنا تغمدهم الله برحمته للمهاجر الغربية وهم في بؤس من العيش ومغالبة مع القهر والكفاح في سبيل البقاء، فتكبدوا المشاق وتحملوا الأكدار والأحزان، ورابطوا عشرات السنين على ظهور السفن التي تجوب المحيطات، فكانت هي فندقهم، وهي قريتهم، وهي أسواقهم، وهي مشفاهم، وهي مدرستهم، ومسجدهم، وبين فحمها الحجري متنزهاتهم، ومن مات منهم فمقبرته بطون الحوت تحت أمواج البحر إلى يوم يبعثون، ومنهم من كان يعمل في الجزر النائية البعيدة حيث لا زائر لهم ولا ذاكر، ومنهم من يعمل في مصانع ثقيلة مع أفران الصهر للحديد، يستنشق دخانها بكرة وعشيا، ويستدفئ بنيرانها التي تصهر صلب الحديد، وكان المغترب يعاني في دول النهضة الصناعية الأوروبية في سكنه وفي الطريق لعمله حياة قاتلة بزمهرير الشتاء وثلوجه المتراكمة، ومن برودة الرياح العتية، قد تصل برودتها بين عشر وعشرين درجة مئوية تحت الصفر أحيانا. بينما كانوا لا يحسنون من كلام بلدان المهجر شيئا، اللهم إلّا لغتهم الدارجة المحلية التي قدموا بها من قراهم الريفية، وكانت أحاديثهم مع كل من حولهم بلغة الإشارة كالبكم، فلا يفهمون حديثا، فأي مشقة كانت؟، وأي معاناة أشد؟، لقد ترك بعضهم عروسه في شهر العسل واتجه للهجرة القاسية، فلم يتمكن من الرجوع إليها إلّا بعد عشرين أو ثلاثين سنة، ومنهم من كان غيابه أطول، تاركا إياها إما في بيت أمه وأبيه، أو في كوخ ناء مع عدد من الغنم والطيور، منها تعيش، وهي كل عالمها بكرة وعشيا، لا تلفاز ولا راديو ولا انترنت ولا كهرباء، تنتظر ساعي البريد شهورا عديدة قد تقارب العام، لعلها تجد مكتوبا من حبيبها الغائب، رغم أن كل ما فيه يسألها عن حالها وعن الماشية والطير الّذي تعيش بهم، لم يقل حتى كلمة حب، ولا لفظة غرام، بل كان الجنسان يخجلان من التعبير عن أشواقهم، وعن المصارحة بالحنين للحبيبة، في حين كانوا يسهبون في وصف حياتهم القاسية، ومعاناتهم المريرة، ليستدرون بها عطف أهاليهم، ومنهم من كان يضع نقاطا من الدمع على أطراف الجواب، ومنهم من لا قى حتفه واستشهد في السفن البحرية، أو في المصانع العملاقة، تحت قصف الطيران والبارجات الحربية خلال الحربين العالميتين: الأولى والثانية، ولقد عبر عن لسان حالهم الشاعر الشهيد محمد محمود الزبيري رحمه الله:
آه ويـــــــــــح الغــريب مـــــاذا يقاســــــــــــــي من عذاب النوى وماذا يعاني
كُشـفت لــــــــي في غربتي سوءة الدنــ ــ يا ولاحت هنّاتــــــــــــــــــها لعيانــــي
كلمـــــــــــــــــــــا نلــــــت لـــــــــــــذة أنــــذرتنــــــــــــــــي فتلفت خيفة مــــــــــن زمـــــــــــاني
وإذا رمــــــــــــــــت بســـــــــــمة لاح مـــــــــــــرآى وطني فاستفزني ونهــــــــــــــــاني
ليس في الأرض للغريب سوى الدمـع ولا في السماء غير الأماني
لقد كانت قسوة الحياة، تمنحهم قسوة الطباع، وجعلتهم يُسقِطون أو يتجاهلون حقوق صلة الرحم، وإشباع العواطف البشرية للحبيبة وللأم، وللبنت، إلّا إنّ بعض ذلك الرعيل المكافح من أجل بلوغ العيش الكريم؛ قد تمكن من نيل بعض أحلامهم، وتحقيق اليسير جداً من طموحاتهم، وكانت تحويلاتهم النقدية ترفد خزائن أوطانهم، وما يعودون به من خيرات تسهم في بناء الوطن، وتنشئ ثقافة مجتمعية من أدب الرحلات والجغرافيا والمدنية، وقد تركت جراحات تلك الهجرات الطويلة وراء البحار حسرات وزفرات بين ضلوع الحبيبة التي تركها الحبيب في الشهر الأول من حياتهما الزوجية، وانطوت عليهما عشر سنوات أو عشرين أو ثلاثين متتابعة، وهي تنتظر عودة رجل قد نسيت ملامح وجهه، ونبرات صوته، بعد أن انتظرته طويلاً حتى شحب لونها، وتجعّدت جبهتها، وترهّلت وجناتها، من التقدم في السن، ومن العناء المستمر في قسوة البادية وشظف عيشها، ومن مشقة الأعباء والأعمال الريفية، ولا تملك إلّا أن تردد في حناياها بين وقت وآخر مع الشاعر (الفضول) ماغناه الفنان أيوب طارش:
إرجع لحولك كم دعاك تسقيه ورد الربى من له سواك يجنيه
ماشتيش مكتوبك ولا الصداره أشتيك تعود حتى ولو زياره
ثم تتذكر أنها قد تدربت على العيش في ظل الأمل منذ رأت رجلها المغترب يشد حقيبته نحو السفر، فأقفلت عيونها عن ما تستوجبه متطلبات الأنوثة التي خلقت فيها كغيرها، واتجهت إلى التطلع ليوم لقاء جديد ليس قريبا، ولكنه قد يعود فيه الغائب، وقد غير حياتها من مكاسبه في الهجرة، تحلم أن كوخها العتيق يتحول إلى بيت ريفي كبيوت الميسورين، وعساها تستطيع أن تغير ملابسها الرثة المنسوجة يدويا بحلل زاهية جديدة، ويا طول ما تنتظر ساعي البريد الّذي يقدم إليها رسائل الحبيب المغترب، الّذي ليس له غيرها، وليس لها سواه، فتتغنى بأغان شعبية شاجية، وتغرد بصوتها الريفي في حدود المباح في أعراف القرية من بين المزارع أو على الهضاب، وأثناء الليل والنهار، كلما شجتها البلابل فوق الغصون، أو هدلت اليمامة في دوحات الوادي، أو غردت من حولها الحمائم، أو كلما جلدها الحنين ورجفتها راجفة الشوق تردد:
بالله عليك وا مسافر … لو لقيت الحبيب … بلغ سلامي إليه … وقله كم بايغيب.
لكن بعض الهجرات اليمنية القديمة وخاصة منها الحضرمية التي اتجهت إلى مهاجر الشرق قد تحولت إلى تعليم ودعوة وتربية وأسوة حسنة، حتى اعتنق الإسلام على أيدي أولئك المهاجرين في القارة الهندية وفي جنوب شرق آسيا أضعاف أضعاف عدد المسلمين في الوطن العربي، وتحول المهاجرون الغرباء إلى تجار وحكام.
ومع كل ما سبقت الأمثال به كان بعض المهاجرين قديما قد شيدوا في قرى أريافهم وعلى سفوح وقمم الجبال الريفية قصورا منيفة، وحفروا الآبار، وتملكوا البيوت في المدن، واشتروا المزارع، وعمروا المساجد، وانفق القليلون منهم على تعليم أولادهم، وشاركوا في تطوير وإحياء أريافهم وزينوا بعرقهم العطري التلال والسهول، حتى جاء زمن التحول الطبيعي لعجلة الحياة ودولاب الزمن الدوار، الّذي انتقلت فيه الهجرة من الغرب والشرق إلى داخل أقطارنا العربية، كان ذلك بفعل الاكتشافات الحديثة لمصادر الطاقة من النفط والغاز، وكانت إكتشافات الغرب لمخزون الصحراء العربية من مصادر الطاقة وموارد الخير، قد حولت سيول الهجرة والإغتراب إلى تلك الدول العربية المستحدثة، إذ لم يمض على تاريخ ميلادها حتى الآن كما مضى على ميلاد الفنانة اللبنانية (صباح)، وقد وجد المهاجرون من الفقراء إلى تلك الدول الوليدة وجهات جديدة، أقل خطراً وأكثر أمناً وأقرب مسافات، وأوفر ديناً وعرضا، فتدفقوا إليها كالسيول العارمة، وأقاموا مع أهلها علاقات جيدة، وبنوا فيها مدنية، ونهضة تجارية، وعادت لهم من خلالها خيرات، وتفقهوا في المعرفة، وتعززت مواهبهم، وتطورت قدراتهم، وعاشوا جزءا من نسيج المجتمعات العربية الأخرى، وتطبعوا بطباعهم، حتى جاءت محنة السياسة والسياسيين، وحروب داحس والغبراء بين العرب العرباء، فأسقطت كل الأقنعة وتكشفت الأحوال عن عقابات جماعية لشعب بأسره؛ بسبب أحد المغامرين، وجلدت الشعوب العربية كاملة و(قتلوا ناقة الله وسقياها)، فانقلبت الموازين، وتحولت النعمة إلى نقمة، وجلدت أمة بكاملها بذنب رجل واحد، وتحولت الأخوة إلى جفوة وانتقام، فالقوانين والشرائع والقيم كلها تسقط أمام رغبة حاكم في التعبير عن غضبه، فالمغترب اليوم يعاني من تحول نعم الله التي كانت تأتيه. فمن المهاجرين من استسلم لسيف الظلم وسوط القهر، ومنهم من استأنف معاودة البحث عن هجرة جديدة نحو الغرب عاودهم الحنين للعيش في ظل قوانين تضمن لهم الكرامة والعيش الكريم، ولم تقف في وجوههم البحار وأمواجها العاتية، ولا أبواب السفارات الموصدة والإمتناع عن منحهم التأشيرات، فهم يغامرون لبلوغ الرزق فيقعون في قوارب الموت الجماعي بالغرق في مياه البحار على قوارب نقل غير مجهزة ولا صالحة، ومنهم من خاف الهلاك فبقي يتجرع اضطهاداً وقهراً وذلاً واستعبادا مع بعض الذين (لا يرقبون في مؤمن إلّاً ولا ذمة)، فإلى متى تظل أحلامنا وأوهامنا معلقة بمن لا يملكون رادعاً من دين، ولا وازعاً من ضمير. وحتام تظل أرزاق شعوبنا بأيدي المانحين، أو تحت أقدام مصاصي دماء الفقراء. متى يا ولاة الأمور يرزقنا الله التوفيق لاكتشاف أرزاقنا في أوطاننا ويغنينا عن الإغتراب والمعاناة، بحثاً عن الرزق الحلال.
قد يعجبك ايضآ