أحدث أخبار الفن والرياضة والثقافة والمرأة والمجتمع والمشاهير في كل المجالات

علاقة الإنسان المصري بمواقع تراث بلده .. بقلم / مريم عصام

علاقة الإنسان المصري بمواقع تراث بلده
بقلم: مريم عصام

زيارة إلى الحبيبة قلب المحروسة
لا أفقه بالضبط الشعور الغريب الذي ينتابني بمجرد أن أضع قدمي في أحد شوارع وسط البلد، أشعر وأنني أتنفس جيدا وأعيني تتسع اتساعا كاملا كأنها تريد بعدساتها أن تلتقط كل صورة وحركة حتى يستطيع الدماغ الاحتفاظ بالذكرى أطول فترة ممكنة. طالما حاولت أن أفسر هذا الشعور وأجتهد جدا في فهم نفسي من خلاله. أتساءل: ماذا تعني وسط البلد بالنسبة لك؟ بعض ذكريات الطفولة؟ حلويات “العبد”؟ هل الأمر يقتصر على ذلك؟ أم ما هي الرابطة بالضبط؟ كل مرة أحاول فيها الإجابة تتعثر الكلمات في فمي وتتعقد كل الشبكات في عقلي الذي يصارع المنطق، وهل يمكن للمشاعر أن تُمنطق دائما؟ لا ليس بالضرورة، ولكن المشاعر دائما تبصرنا بعوالمنا الداخلية، تُفهمنا من نحن، تُلقينا على أعتاب الحقيقة، حقيقة أنفسنا.

وسط البلد الحبيبة، تحية طيبة وبعد،
دائما ما تدفعينني إلى الشعور بأنني أريد الالتصاق بجدران أبنيتك، أن أبيت في ميدان من ميادينك، أن أمشي في شوارعك فأبكي بكاء نشوة وابتهاج وحنين وحزن. أرجوكِ لا تتسرعي في الحكم عليَّ بالمجنونة أو أن تقولي فتاة أهلكها العشق، أمرضها حتى الثُّمالة! اسمعي كلماتي التي لا أزال أحاول ترتيبها على الورق رغم تعثر القلم ورغم العبرات سجينة محاجري.

يقول الفيلسوف والمفكر باشيلارد أن الأماكن نحن من نُعرفها، نحن لا نسكن المكان فحسب ولكنه أيضا يسكننا! فبيتُك الذي عشت فيه أيام طفولتك ما هو إلا طوب فوق طوب وأثاث وأبواب مغلقة ومفتوحة وإضاءات و… و… كلها جمادات! لكن من يعطي للمكان معنى؟ أنت والخمس ست أشخاص الذين عشت معهم في هذا البيت! بهذا يُعرف المكان فتقول: هنا لعبت و هنا ضحت وهنا خفت، هنا نمت و كبرت حلمت و تمنيت، غنيت وصليت…
يا بيت أبويا معزتك في عنيا
ما شفت منك غير ليالي هنية…
ولو في آخر الدنيا هجيلك
واقعد ما بين أهلي وحبايبي شوية
-مرسي جميل عزيز

ولكن ما الرابطة بينك وبين مكان لم تتحد روحك من قبل بجدرانه أي لم تسكنه قط فلم تصنع فيه ذكريات قوية ولم تملأه بك إلى هذا الحد من التعلق الروحي؟

حبيبتي وسط البلد، تحية طيبة وبعد،
إنك تزخرين بمعالم التاريخ، التاريخ الذي لا تزال صحائفه مخطوطة بعلامات استفهام كثيرة تُشعل جذوة فضولي المعرفي! فحين أقف أمام قصر أثري، ذلك القصر لا يتمثل أمامي فقط كقطعة أثرية ولا أنظر إليه بهذه السطحية، بل هو مَسكن لأُناس عاشوا فيك ما عاشوا، وصنعوا فيك ما صنعوا، وضحكوا حتى أغربوا في الضحك ثم بكوا كأنهم لم يضحكوا قط! أناس عاشوا فيه حيوات كاملة وملأوه بكثير من تفاصيلهم وأصبغوا على كل جزء فيه أرواحهم قبل أن يودعوه وقبل أن يصبح تاريخيا.
إن الأُلى كُنا نرى
ماتوا ونحن نموت بعدُ…
ما نحن فيه متاعُ
أيامٍ تُعارُ وتُسترد
-أبو العتاهية

مواقع التراث مقابر فاخرة
إن زيارة مواقع التراث تشبه تماما زيارة المقابر، وهذا التشبيه لا يدعو للكآبة بل يدعو للتأمل والتبصر بأوجه الشبه والاختلاف بينهما والمشاعر التي تُحركها فينا كل منهما، فكلاهما منهما نتعجب، وكلاهما يدعونا للتأمل والاتعاظ، ونعم كلاهما يُلهمنا! الفرق أن الأولى فقط أكثر رومانسية ولمعانا خالية من أجساد الموتى لكنها لا تزال عامرة بأرواحهم وروائحهم! لك مثلا وأنت تقف أمام مكتب أحمد شوقي في بيته القديم في شارع النيل أن تتخيله وهو جالس عليه يسطر صحائفه، ينثر عليها وينظم شعره وتتساءل: هل على هذا المكتب كتب شوقي آخر كلماته؟ أم أين يا تُرى كان الوداع!
قِف دون رأيك في الحياة مجاهدا
إن الحياة عقيدة وجهاد
-أحمد شوقي

مواقع التراث حِضنٌ للتاريخ وحِصنٌ للهُوية
صحيح أن مواقع التراث تشبه المقابر كما قلت في إلهامنا وعظتنا بحقيقة رحيلنا يوما ما، ولكنها أيضا حِضن يأوي التاريخ ويضمه ويحافظ على هُويتنا. عندما نزور مواقع التراث لا نقف عند حد البكاء على الأطلال بل يلعب بعقولنا الفضول لنعرف الحكاية، ونشعر بنشوة لأننا حين نعرف الحكاية نتحد بأصولنا وبحضراتنا، نعرف كيف كنا وكيف أصبحنا، ما العوامل المباشرة وغير المباشرة التي أدت إلى تكويننا الفكري والنفسي، وأيا كانت هذه الحكاية وسواء تحكي عن هزيمة وسقوط وتخلف أم عزة وعلو وتقدم فلا يهم، فالعزة ليس فيما سطره تاريخنا فحسب بل في قدرتنا على معرفة أصولنا والاعتراف بها دون أدنى شعور بالخزي ومن ثم نُبصر نقاط قوتنا وإبداعاتنا فنعرف قدر أنفسنا، ونبصر نقاط ضعفنا فنتعاهد التغيير.
“إن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق”
-ابن خلدون

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.