أحدث أخبار الفن والرياضة والثقافة والمرأة والمجتمع والمشاهير في كل المجالات

عزت السعدني يكتب : عندما تسببت فى أزمة بين عبدالناصر ومكاريوس؟!!

كأننى سقراط زمانه.. وأرسطو عصره وأوانه.. وربما كنت فى نظرهم وفى خيالهم الخصب وقلوبهم المتفتحة العامرة بكل ما هو جميل وطيب فى هذا الكون.. والتى مازالت بكرا.. وعقولهم التى مازالت تحلق فى سماء شمس لا تغيب وهم يلتفون حولي.. ابن سينا فيلسوف العرب أو ابن زيدون شاعر الحب الصادق والجمال البكر فى الأندلس الذى لم تلوثه بعد مساحيق المكر والخداع وأقنعة دسائس العصر وخائنة الأعين وزيف القول وخبث الخلق..

كأننى يا رفاقى كل هذا الفيض الطيب والنبع الصافى أو حتى قطرات عذبة منه لم تتلوث بعد بزيف الحضارة.. وحضارة الزيف.. التى نعيشها اختيارا أو كرها.. عندما جاءوا إلى مكتبي.. جماعات ووحدانا بعد أن نزلت على مضض مني.. من فوق منصة قاعة المحاضرات فى نقابة الصحفيين بدعوة كريمة من العزيز عبد المحسن سلامة نقيب الصحفيين وبترتيب رائع من الزميل المتألق المتأنق سامح عبد الله مدير معهد الأهرام الإقليمى للصحافة.

سألوني: أحك لنا يا معلم ـ بضم الميم وفتح العين ـ حكاية رحلتك إلى قبرص التى لم تحكها لنا وأنت على المنصة.. فى أول رحلة صحفية لك خارج حدود مصر.. ؟

قلت: لقد عشت حقا يا رفاقى فى الهم الصحفى أيامها فى رحلتى إلى قبرص.. عشرة أيام فى الجنة..

قالوا فى صوت واحد: نريد أن نذهب معك ولو يوما واحدا من أيامك التى عشتها فى هذه الجنة..

<{<

أنا أحكى وهم من حولى منصتون:

ـ هبطت بنا الطائرة الأنتينوف الروسية ذات المحركات المروحية فى مطار نيقوسيا عاصمة قبرص التى يتنازعها اليونانيون مع الأتراك.. صباح يوم من أيام شهر يونيو عام 1964وكان الأسقف مكاريوس هو أول رئيس منتخب أيامها لقبرص… بصحبة وفد جامعة عين شمس الرياضي..

ولأننى طوال عمرى عاشق للشمس.. للشروق.. وتملؤنى روح المغامرة والتفاؤل والقدرة على تخطى الصعاب… فشعارى أيامها كان.. ولا يزال.. لا شيء مستحيل.. فقد ملأنى الغرور إلى الدرجة التى غامرت فيها بحياتى نفسها مرتين:

ـ إزاي؟ هم يسألونني..

المرة الأولي: عندما ذهبت لمقابلة رئيس الجانب التركى فى جزيرة قبرص.. وكانت الجزيرة كلها مقسمة بين اليونانيين والأتراك…

بل إن العاصمة نيقوسيا نفسها كان يقسمها شارع واحد اسمه «شارع فيدرا» يفصل بين الأحياء اليونانية والأحياء التركية..

وقد حذرونى وأنا ذاهب لمقابلة رئيس الجالية التركية من أن رصاص القناصة اليونانيين سيكون فى انتظاري!
الزعيم جمال عبدالناصر والأسقف مكاريوس فى استقبال تاريخي

ولكن لأن الشمس فى يمينى والاندفاع وروح المغامرة فى يساري.. فقد أغلقت أذنى أيامها عن سماع أى تهديد لى ولو كان ثمنه حياتى نفسها.. فمن يبكى عليّ إذن.. حبيبة ذهبت بحق أو بغير حق… أم زوجة لم يجئ ميعادها بعد؟.. أم أولاد لم يأتوا إلى الدنيا ليشقوا معنا ونشقى معهم؟

السبق الصحفى يا رفاقى هو شمس الصحفى وقمره.. وهو كلب الصيد الذى يقوده دائما إلى المجهول وإلى الانتصار فى النهاية.. حتى لو خرج من المعركة بجراح أصابت قلبه وجسده.. ولكنها لم تصب عقله ووجدانه.. بل تزيده الأيام صلابة وقوة وعلو هامة..

<{<

نفخت صدرى وحبست أنفاسى وأنا أخطو أولى خطواتى مشيا فى شارع فيدرا الشهير متجها إلى الجانب التركي..

كان الوقت صباحا.. بعد الحادية عشرة بقليل..

وكانت شمس قبرص فى هذا الوقت من السنة فى شهر يونيو ترسل أشعتها الساخنة وليست الحارقة.. تبعث فى أطرافى دفئا وفى قلبى الذى كان يدق دقات سريعة متلاحقة… مزيدا من الحماس وروح المغامرة..

كانت المسافة لا تتجاوز 500 متر.. ولكنها كانت بالنسبة لى تتجاوز الخمسمائة كيلو متر من فرط القلق والخوف والتردد فى مثل هذه المواقف…

والعجيب والغريب حقا.. اننى وقد كنت فى نحو السابعة والعشرين من عمرى وقتها.. لم أخف..

كنت أتوقع فى أى لحظة رصاصة بندقية تستقر فى ظهري.. أو دفعة رصاص من رشاش قناص يوناني..

ولأن الجانب التركى يعرف تماما اننى أقصده، وبالتالى سكتت بنادقه تماما واختفى قناصوه..

تصبب العرق غزيرا منى وأنا أخطو آخر خمسين مترا مع دقات قلب متلاحقة… قاومت فكرة العدو جريا مسرعا وكنت أيامها أحد أبطال هذه اللعبة فى الجامعة.. حتى أبواب الحراس الأتراك..

مرت آخر دقيقة وكأنها دهر بحاله.. حتى انفتح الباب وأمسك بذراعى أحد الحراس الأتراك الذين كانوا يرقبون خطواتي.. ودفعونى إلى الأمان فى الداخل.. وكأننى يومها قد ملكت الدنيا ومن عليها وأنا غير مصدق اننى مازلت حيا يرزق..

<{<

كان فى انتظارى رئيس الجانب التركى مرحبا..

جاء مصور تركى بالطبع يحمل كاميرا بفلاشات تفرقع ضوءا فى وجهي.. والتقط عددا من الصور لنا ونحن نتحاور.. ونتبادل الحديث..

لا أذكر الآن كل ما قاله لي..؟ وماذا قلت له؟

ولكن على أى حال.. ما كتبته كان منشورا على الصفحة الخامسة بعد يومين فى الأهرام.

وقد بادرنى هو بسؤال: لماذا تضعون أيديكم فى أيدى الأسقف مكاريوس.. ولا تضعون أيديكم فى أيدينا نحن.. ونحن أتراك اخوة لكم فى الدين.. وصانع حضارتكم الحديثة محمد على باشا وهو تركى عثمانلى أصيل من مدينة قولة فى الخلافة العثمانية المسلمة؟

أذكر أن جوابى له يومها: فى السياسة تختلف الاتجاهات والتوجهات السياسية حسب المصالح المتبادلة.. ولا دخل للدين هنا..

نحن يا سيدى نتعامل مع العالم المسيحى كما نتعامل مع العالم البوذى والهندوسى.. والذى بلا دين أصلا!

قال: لست أقصد هذا.. ولكن كما تتعاملون مع الجانب اليونانى الذى يرأسه الأسقف مكاريوس لماذا لا تتعاملون معنا.. على نفس القدر.. ونفس البوصلة السياسية!

ولم أجد فى رأسى جوابا له.. لأننى لا أملكه..

وبينما كنت أتلقى التهانى من الزملاء غير الحاسدين عبر التليفون فى غرفتى فى الفندق فى نيقوسيا… فى صباح اليوم التالى على هذا السبق الصحفى الخطير : حوار لأول مرة مع زعيم الجانب التركى فى الجزيرة المشتعلة حربا باردة وساخنة .. الذى اختار له أستاذنا الكبير صلاح هلال رئيس قسم التحقيقات الصحفية أيامها … عنوانا هو : من يلقى أعواد الثقاب على الجزيرة المشتعلة ؟

ثم عنوان آخر: شارع فيدرا يفصل بين الحرب والسلام !

وبينما كنت أمنى نفسى بمكافأة لم تكن فى الحسبان من أستاذنا الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل … رئيس التحرير أيامها .. وكان للحق سخيا فى مكافأة وتشجيع الصحفيين الشباب أمثالى وقتها … إذا بى أتلقى مكالمة عاجلة من مديرة مكتبه الزميلة العزيزة نوال المحلاوى تقول لى بصوت يجلجل ويهز جزيرة قبرص كلها هزا كأنه زلزال صحفى : إيه اللى أنت عملته ياعم عزت أنت عملت أزمة دبلوماسية !

أسألها بقلق: أنا عملت أزمة دبلوماسية مع مين ؟

قالت: مع قبرص …

أسالها: إزاى ده حصل !

قالت: ياسيدى موضوعك مع زعيم الجانب التركى فى قبرص … فى الأهرام اللى نشرناه … تصادف أن الأسقف مكاريوس كان فى زيارة للقاهرة فى نفس اليوم .. والمرافقون له قرأو له الموضوع… وأنت عارف إن الراجل التركى ده هو العدو الأول للأسقف مكاريوس. يعنى إنت جيت تكحلها عميتها … ليه ماعملتش الأول حوارا مع الأسقف مكاريوس .. كان نزل فى يوم زيارته ؟

قلت: ماهو الأسقف مكاريوس بسلامته ياست هانم كان عندكم فى مصر… ماكانش فى قبرص!

قالت: نعمل إيه طيب فى حظك الهباب ده ؟ استلقى وعدك من الأستاذ هيكل بعد ما ترجع.. على فكرة سامى شرف مدير مكتب الرئيس جمال عبد الناصر اتصل وقال: إيه الهباب اللى نشرتوه النهاردة ده ؟

قلت لها طهقانا وزهقانا: والله ياست نوال مانا راجع !

أسمع ضحكتها تجلجل فى أذنى من القاهرة … وهى تغلق الخط …!

قلت فى نفسى يومها دون صوت: يعنى يارب أول رحلة لى خارج مصر … أتسبب فى أزمة دبلوماسية !

<{<

فى المساء قبلت دعوة الملحق الصحفى المصرى إلى حفل بمناسبة وصول أول وفد شبابى مصرى إلى قبرص ..

وهناك كان فى انتظارى مفاجأة لم تكن على البال ولا على الخاطر:

فى بهو الفندق وجدت عرسا رائعا … عريس وعروس ومعازيم وباقات ورد … وشراب بلاحساب … ونظرت إلى العروس وهى فى فستان فرحها … فإذا بها حامل ربما فى شهرها الأخير !

سألت مرافقى الملحق الصحفى المصرى: إيه الحكاية … هما عملوا الفرح بعد ما العروسة بقت حامل ولا إيه ؟

يضحك صاحبنا كثيرا ثم يقول : ياسيدى العرف هنا كده … العريس بعد الجواز يروح عند العروسة الأول … ولما تحمل يعملوا الفرح ويعلقوا الزينات زى مانت شايف … والعروسة بطنها قدامها سبعة أمتار وهى بفستان الفرح !

<{<

وذهبنا فى الليلة التالية إلى حفل الاستقبال فى النادى الدبلوماسى … وكان هناك كوكبة من السفراء وزوجاتهم … ودار بيننا حوار مفتوح.

ولكن القدر كان يخبيء لى مفاجأة كبرى لم تكن فى الحسبان … عندما قدموا لى بطلة قبرص فى التنس كريستيانا أرويلاس … وكان هذا اسمها حسب ما أتذكر الآن : تأملتها فإذا هى أمامى فتاة مقبلة على الحياة … مرحة ذات لسان يقطر عسلا وسكرا ورقة وأدبا … بلا حدود … ولكن تلك حكاية أخري.
نقلا عن جريدة الاهرام

<{<

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.