أحدث أخبار الفن والرياضة والثقافة والمرأة والمجتمع والمشاهير في كل المجالات

لم يعد هناك موطئ لأرنب بقلم الكاتبه أمينة خيري

لم يعد سباق الأرانب محتملاً، كما لم تعد حجج “أصل الثالث جه غلطة” و”الرابع جه لخطأ في الحسابات” و”الخامس جه من غير ما ناخد بالنا” تثير مصمصة الشفاة تعاطفًا أو طأطأة اللسان تراحمًا، حتى حكاية “أصل العيال رزق” و”العيل بييجي برزقه” إلخ أصبحت خائبة وبائسة، بل وسخيفة ورذيلة.

رذالة الموقف كانت حاكمة، “عماد” النادل في النادي شاب مكافح بمعنى الكلمة، هو في أوائل الثلاثينيات، يعمل فترة نهارية في مطعم النادي، ويلحقها بأخرى مسائية في مقهى، أراه على فترات متقطعة، ويأتيني دائمًا شعور بأنه في كل مرة يخبرني بفرحة غامرة أنه رزق “محمد” أو “أحمد” أو “مصطفى”، وعقب كل إخبارية، شكوى عارمة من ارتفاع الأسعار، وصعوبة الأوضاع، والحمل الثقيل على العباد، والهم الرهيب في البلاد، قبل أيام، قابلته بعد فترة انقطاع، فإذ به يخبرني أنه رٌزِق “شيماء” بعد طول انتظار، ودون تفكير باغته بالسؤال: “عماد! إنت بتخلف كل قد إيه؟!” نظر لي نظرة استهجان، لكني لم أبال، سألته: “إنت عندك كام طفل؟” قال: خمسة (وهو يخمس بكف يده منعًا للحسد).

سألته: “إنت مجنون؟!” فتحولت نظرة الاستهجان إلى استغراب، قلت في نفسي: “عليَّ أن أغير نبرة حديثي منعًا للتصادم”، عاودت السؤال بطريقة يعشقها المصريون: “قصدي يعني بسم الله ما شاء الله، الله أكبر الفارق الزمني بين كل طفل والآخر قد إيه؟!” فرد بفخر شديد: “سنة وشوية!”.
هذه المرة صارحت نفسي بحقيقة مشاعري، لم أعد أحمل ذرة تعاطف مع من يذيل شكواه من صعوبة المعيشة، وشظف العيش، وتدهور الأوضاع بـ”عندي خمس وست وسبع عيال أأكلهم منين؟!” أتعاطف وأتفاعل وأتضامن مع الأسر صغيرة العدد، والتي تئن تحت وطأة الأسعار النارية، لكن نيران سباق الأرانب الدائرة رحاه دون سبب منطقي يجب أن يتم إخمادها الآن.

آنية توقيف ماكينات ضخ الرؤوس البشرية بكل أنانية أولوية قصوى، وهي تنافس مواجهة الإرهاب، وتضاهي توفير الوظائف، وتأهيل الخريجين، وتحسين الرعاية الصحية، وكل تلك الضرورات الحياتية.

وسواء كان إصرار قطاع ليس بقليل من المصريين والمصريات أن يمضي قدمًا في تفريغ ملايين البشر دون داع؛ ليضروا أنفسهم وأبناءهم ومن حولهم ناجمًا عن ضيق أفق يهيئ لهم أن العيل مشروع استثماري سيدر دخلاً إضافيًا للأسرة الواقعة في فقر مدقع، أو ناتجًا عن أدعياء الدين، الذين مازالوا يرتعون في المناطق الشعبية والعشوائية، (التي باتت تشكل الأغلبية العددية في المدن الكبيرة) والقرى؛ حيث يدقون على أوتار نار جهنم التي سيشوى فيها الزوجان المنظمان للأسرة، فإن المحصلة النهائية هي قنبلة نووية سكانية آخذة في الانفجار في وجوه الكل.

كل من يقطن تجمعًا عمرانيًا حديثًا – من تلك التجمعات التي هرب إليها كثيرون من سكان المدن الكبرى – سيفهمون ما أتحدث عنه، ففي مناطق مثل “الشروق” أو “6 أكتوبر” أو “التجمع” مثلاً تجد الأسرة الصغيرة التي وضعت تحويشة العمر في فيلا أو شقة كبيرة تستعين بخفير أو حارس عقار، فيأتي ومعه جيش جرار من العيال، تسأله: “مين دول؟!” يخبرك – بعد الحوقلة والبسملة – أنهم عياله، ويذيل الإجابة ببشرى سارة، وهي أن زوجته تنتظر حدثًا إضافيًا.

صحيح أن الأبناء والبنات هم زينة الحياة، وربنا يحميهم ويخليهم، لكن الإفراط فيهم أنانية وقصر نظر، فصاحب الجيش الجرار من العيال (والبعض من المدافعين عن حقوق الإنسان) يعتبر جيشه الجرار اختيارًا شخصيًا، وحرية لا يحق لأحد التدخل فيها، ليس هذا فقط، بل إنه يعتبر الدولة آثمة، والحكومة ظالمة، والقابعين في طبقات أعلى – ضمن الهرم الطبقي – أشرارًا وأوغادًا؛ لأنهم لا يراعون أطفاله بالقدر الكافي؛ ولأنهم يتركونه يعاني هذه المعاناة من أجل إطعامهم، ولا أقول تعليمهم أو تربيتهم أو تثقيفهم لأن هذه ليست أولويات بالنسبة لأغلبهم.

يبدو الطرح التالي قاسي القلب متحجر المشاعر، ولكنه واقعي جدًا، أنت اتخذت قرارك بإنجاب قرطة عيال، وأنت على يقين بأنك توفر طعام يومك لك ولزوجتك بالكاد؛ فبأي منطق تحملني مسئولية عيالك؟ وعلى أي أساس تعتبر الحكومة مقصرة وظالمة؛ لأنها لا تعطيك معاشًا شهريًا لتعولهم، وبأمارة إيه تتوقع مني أن أشاركك دخلي أو مدخراتي التي حققتها وزوجي بشق الأنفس من أجلنا، واثنين من الأبناء، اللذين اكتفينا بهما؛ حتى نضمن لهما تعليمًا جيدًا وفرصًا أفضل في التشنئة؟!

فرق كبير بين التكافل بين المواطنين؛ حيث يساعد من يملك من لا يملك، وبين حتمية أن يدعم من يملك من حوله ممن اتخذوا قرار تفجير البلاد برؤوس بشرية يعجزون عن إعشاتها، ولا احتياج لها في الدولة أصلاً!

الأصل في الحياة ليس إنجاب العيال لغرض الإنجاب؛ أنظر حولك ولاحظ من يسيطر على الشارع بسلوكه وثقافته وأخلاقه، إنهم أجيال صغيرة: سائق توك توك لا يتجاوز عمره 12 عامًا يدخن، ويدافع عن نفسه بمطواة، ويعتقد أن “الأسطورة” أسلوب حياة، سائق ميكروباص ضارب بكل قواعد القانون والسلوك عرض الحائط، ويفرض سطوته على الجميع بقوة البلطجة، سائس قرر أن يحتل شارعًا من أوله لآخره، فارضًا جباية مقابل إيقاف السيارات والويل للمعترض، جيش جرار من النساء والفتيات، اللاتي يعملن في تنظيف البيوت، أو تنظيف الخضراوات وبيعها في الشارع، أو غيرها من الأعمال الهامشية، خفراء وسائقو “ثمناية”، وعمال بناء نزحوا من قراهم، ومعهم ملايين الأطفال بحثًا عن فرصة عمل في المدينة، وغيرهم كثيرون.

والغالبية من أولئك تستمر في ضخ العيال بينما نتكلم، سطوة أولئك العددية – برغم ضيق ذات أياديهم – تبسط ثقافتها وسلوكها على الآخرين الذين باتوا أقلية، وفي الوقت نفسه، فإن هؤلاء الآخرين (الطبقة المتوسطة وما فوقها) كثيرًا ما تجد نفسها تحت ضغط الانصياع لقوانين الأكثرة وسلوكياتها وثقافتها التي لم تجد من يقننها، أو يصلح عوارها أو يعيد هيكلة مسارها.

أوقفوا سباق الأرانب!! فلم يعد هناك موطئ لأرنب!

نقلا عن بوابة الاهرام

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.